تفسير محتمل بواسطة الأبعاد الإضافية
من المتفق عليه أننا نعيش في عالم رباعي الأبعاد، ثلاثة أبعاد مكانية مرئية: الطول والعرض والارتفاع. وبُعد آخر زماني غير مرئي، وإنما البعض يعتبره شيئاً اعتبارياً (موجودا في الداخل أي في الذّهن) والبعض يعتبره شيئاً وجوديا (موجودا في الخارج أي متحققا خارج الذّهن). ونحن نستطيع قياس هذه الكميات الأربعة عندما تكون مجهولة بمقارنتها بكميات معلومة (قياسية). مثلا عندما نريد أن نقيس طولا غير معلوم لشيء، نقارنه بطول شيء معلوم (قياسي) كمسطرة مترية. وعندما نريد قياس زمن غير معلوم كمدة محاضرة مملة، نقارنه بزمن معلوم (قياسي) كالمدة التي يأخذها عقرب الساعة ليكمل دورة كاملة. ففي كِلا الحالتين أكون قد أعطيتك طريقة قياس هذه الأبعاد الأربعة وليس تعريفا لحقيقتها. فحتى الآن هنالك عدة تعريفات للمكان منها أنه هو الفراغ الواصل بين جسمين أو أنه الحيّز الذي يملأه الجسم، وغيرها من التعريفات التي لا أريد الخوض فيها على تنوعها لأنها ليست موضوع المقال، ومن هنا يُطرح السؤال: هل يوجد مكان لو لم يكن هناك أجسام؟ أما الزمن فليس هناك حتى الآن تعريف لحقيقته، فأقصى ما قيل في تعريفه هو أنه مقارنة مدة مجهولة بمدة معلومة (قياسية)، وهذا في الحقيقة تعريف لقياس الزمن كما تقدم وليس تعريفا لماهيته.
ولكن هنالك سؤال غريب قد يخطر في البال، ماذا لو كان هنالك أبعاد إضافية لا نستطيع إدراكها؟ قد يستغرب بعض القراء من هذا السؤال وربما يعتبرونه نوعا من الهذيان! ولكن لِمَ يكون هذيانا؟ هل لأننا لا نراها؟ أم لأن عقولنا لا تستطيع تصورها؟ إذا كان لهذين السببين فأقول: ليس كوننا لا نستطيع رؤية الشيء دليلا على عدم وجوده. أما كون عقولنا لا تستطيع تصور أمر فذلك أيضا ليس بالضرورة دليل على عدم صحته، فنحن مثلا لا نستطيع تصور اللامكان بعقولنا ولكن نستطيع الوصول بعقولنا إلى أنه قبل نشوء الكون لم يكن هنالك مكان ولا زمان وأنهما نشآ مع نشوء الكون، وهذا أمر توصلت إليه الفيزياء أيضا من خلال نظرية الانفجار العظيم، كما نتوصل أنه قبل ذلك لا بد من وجود خالق لا يتحيز بالمكان ولم يتقيد بالزمان. فكل ذلك نستطيع الوصول إليه بالبراهين العقلية ولو لم نستطع تصور الأمر.
إذن فعدم قدرة العقل على تصور الأبعاد الإضافية ليس بدليل على نفيها، وإنما قد يكون لعدم تعرضنا لتجارب مع الأبعاد الإضافية، أي أننا لم نتعرض لآثارها ولم نختبرها في حياتنا اليومية. ولكن هنالك بعض الظواهر الفيزيائية التي قد لا تُفَسّر إلا بوجود الأبعاد الإضافية، كظاهرة تقوّس الفضاء بالقرب من الأجرام السماوية ذوات الكتل الهائلة، فمن المعلوم فيزيائيا حسب نظرية النسبية العامة لأينشتاين والمجربة علمياً أن الفضاء يتقوّس بالقرب من الأجسام الثقيلة. ولتقريب هذه الفكرة للأذهان تصور أنك اخذت غشاء طرياً ككيس نايلون وشددته من كل أطرافه ووضعت في وسطه كرة ثقيلة، تجد ان هذه الكرة الثقيلة تُقوّس هذا الغشاء حولها، فإذا وضعنا بالقرب منها كرة صغيرة خفيفة نجدها تتدحرج نحو الكرة الثقيلة فتبدو بذلك منجذبة نحو الكرة الثقيلة. وبهذه الطريقة فسّر أينشتاين الجاذبية على أنها ناتجة عن تقوّس الفضاء بسبب تحيّز الأجسام الثقيلة وليس كما تصورها نيوتن أنها عبارة عن ارتباط الأجسام ببعضها بقوة تشبه الحبال الموثقة فيما بينها وغامضة من حيث حقيقتها.
ولكن الغشاء الرقيق المذكور له طول وعرض ولكن ليس له ارتفاع (سُمك)، فهو إذن ثنائي الأبعاد. وتقوّسه يكون في البعد الثالث الذي هو الارتفاع، أي أنه لكي يتقوّس لا بد لبعضه أن يخرج إلى البعد الثالث أي أن يصير بعض هذا الغشاء مختلف في الارتفاع عن بعضه الآخر. فنستنتج من هذا المثال أنه لعل فضاءنا الثلاثي الأبعاد (المكانية) الرباعي الأبعاد (باعتبار البعد الزمني) يتقوّس حسب ما ذكرت سابقا في بُعد إضافي. فنحتاج إلى وجود بُعد إضافي لتفسير هذا التقوس.
ولتقريب المسألة أكثر تعالوا نتخيل كائنات ثنائية الأبعاد تعيش في فضاء ثنائي الأبعاد، أي مسطح ذي طول وعرض بدون ارتفاع. فهذه الكائنات لها طول وعرض ولكن ليس لها ارتفاع، فقط مربعات أو مثلثات أو دوائر أو غير ذلك من الأشكال الثنائية الأبعاد. لنتخيل أن دائرة على هذا المسطح قد قابلت مربعاً، فهي لا ترى منه إلا ضلعاً إذا كان مواجها لها أو ضلعين إذا كان موارباً، ولكنها لا تستطيع رؤية ما هو محصور بداخله بين أضلاعه. وإذا كان هذا المربع يشكو من ألم في أمعائه وقد أتى إلى الدائرة لأنها طبيبة فهي قد تسأله عما يشعر به لتُشَخّص حالته لكنها لا تستطيع رؤية أمعائه واستئصال الورم منها مثلا إلا إن أخذت شفرة وأحدثت ثقبا في المربع لترى موضع الورم وتستأصله. ولكنها إذا استطاعت أن ترتقي إلى البعد الثالث (الذي هو إضافي بالنسبة لهذه الكائنات) أي أن ترتفع عن المسطح الذي يعيشون فيه إلى ارتفاع مناسب فإنها سترى الورم في داخل المربع وتمدّ يدها إليه وتستأصله بدون أن تثقب ثقبا في المربع ثم تُري المربع ما استأصلته منه وساعتها يُغشى عليه لشدة الدهشة. فهل نستطيع تعميم هذه التجربة الذهنية إلى حالنا ونستنتج أنه مثلا ربما يملك أحد الأطباء الموهبة لكي يمد يده إلى جسد المريض عبر البعد المكاني الرابع بدون أي جراحة ويُخرج منه ما يؤلمه؟ ربما، لا نستطيع التأكيد لكننا لا نستطيع النفي.
نأتي الآن إلى الجسيمات دون الذرية كالإلكترون والبروتون والنيوترون وتصرفاتها الغريبة حسب ميكانيك الكم والمُشاهَدة في الكثير من التجارب. منها تصرف الإلكترون في بعض الحالات وكأنه في مكانين مختلفين في نفس الوقت، وأشدد على كلمة (كأنه) لأنني لا أقبل ببعض المقولات الاستعراضية التي يتداولها بعض الفيزيائيين بأن الالكترون قد يتواجد في مكانين مختلفين في نفس الوقت بِنِسَبِ احتمالات محددة. ومن يقرأ أقوال علماء ميكانيك الكم يعلم أن هذه المقولة غير مُجمع عليها بينهم. لكننا لا نستطيع الهروب من واقع أن الإلكترون وغيره من الجسيمات دون الذرية تتصرف بهذا الشكل، أي أنها تتصرف وكأنها موجودة في أكثر من مكان واحد وتؤثر من مكان على نفسها في مكان آخر. قد يكون أحد التفاسير لهذه الظاهرة العجيبة هو أن الجسيم دون الذري كالإلكترون له امتداد في بُعد مكاني رابع أو أكثر. فما يظهر لنا من أن الإلكترون موجود في مكانين قد يكون بسبب ظهور جزء من الإلكترون في بقعة من المكان الثلاثي الإبعاد وجزء آخر في بقعة أخرى من هذا المكان، بينما هذان الجزآن هما جانبان من جوانب الإلكترون الممتد عبر البعد أو الأبعاد الإضافية نراهما في فضائنا الثلاثي الأبعاد (المكانية).
وللتقريب للذهن، لنرجع إلى العالم الثنائي الأبعاد المذكور في المثال السابق، ولنأخذ مسمارا ونلويه بحيث يصير على شكل الحرف اللاتيني U ونخرق بطرفيه ذلك المسطح الثنائي الأبعاد، فسيظهر المسمار للكائنات الثنائية الأبعاد في موقعين مختلفين، بينما هم في الحقيقة يرون جانبين للمسمار الممتد عبر البعد الثالث (الارتفاع) الذي هو بعد إضافي بالنسبة لهذه الكائنات يجهلونه.
ومما يدعم نظريتي هذه (وليس يؤكدها) هو نشوء فكرة أبعاد إضافية مجهرية تقتضيها بعض نماذج نظرية الأوتار الفائقة (وهي عبارة عن نظرية فيزيائية تحاول شرح طبيعة الجسيمات الأولية والقوى الأساسية في الطبيعة ضمن إطار واحد، وأحد نُسَخها تتطلب وجود أحد عشر بعداً، بينما هناك نسخة أخرى تتطلب أبعادا أكثر، ولكنها كلها ما زالت في طور النمو وما زالت تواجه عقبات رياضية وتجريبية). حيث تفترض هذه النظرية وجود أبعاد مجهرية مُتكوّرة على نفسها، وهي أبعاد لا تُدرَك إلا على المقياس دون الذري، وبالتالي ليس لها تأثير على الأجسام الكبيرة، فلذلك لا نستطيع إدراكها أو رؤيتها. فإذا صحت هذه الفرضية، فقد تتأثر الأجسام دون الذرية بهذه الأبعاد الإضافية وتمتد عبرها مما ينتج عنه تصرفات غريبة بالنسبة لنا.
ولمن صَعُبَ عليه فهم فكرة الأبعاد المجهرية التي لا ندركها “لصغرها” فليتخيل على سبيل التقريب كابل التوتر العالي عندما نراه من بعيد خطا مستقيما ذو بُعد واحد وهو الطول، وليس له عرضا ولا سُمكا. لكن إذا صادف أنّ نملة صغيرة تسير عليه، فهي تستطيع أن تمشي عليه على امتداد طوله في خط مستقيم، كما أنها تستطيع أن تلف حوله وتمشي بشكل دائري. فبالنسبة لهذه النملة هناك بعد إضافي – لم نره نحن – استعملته ومشت فيه وهو ملتف حول الكابل.
وفي الختام، أنبّه إلى أنني لم أكتب هذا المقال لأثبت وجود أبعاد إضافية، ولكن أردت أن أشارك المهتمين بفكرة معينة وهي احتمال تفسير بعض تصرفات الأجسام دون الذرية الغريبة بوجود أبعاد إضافية، ولشحذ الأذهان، فربما يشاركونني آرائهم وملاحظاتهم حول هذه الفكرة فإما أن نطورها أو نصوبها أو نرفضها ونبحث عن تفسير آخر. وأما الأمثلة الغريبة التي أوردتها فهي مجرد أمثلة ذهنية لتقريب الأفكار للذهن وليست أمثلة محتملة.
فريد مناوي 24-10-2018